هل تكون نسبة التزوير في الانتخابات شرارة الثورة الموريتانية؟/د.محفوظ عمي.

للعسكر الموريتاني في الحكم (1978 - 2019) ما يناهز عمر جيل ولا نعرف أحدا حتى الآن استطاع التكهن باكتشاف بوادر منه بالزهد فيه والتخلي عنه.. ومما يدل على أنه يعض عليه بالنواجذ ما يقال أنه جرى بين المحمدين، المنتهية ولايته والمتر شح لمأمورية أولى.
ففي خضم اللغط حول المأمورية الثالثة وضبابية موقف النظام من ترشحات الرئاسة، ما راع محمد بن عبد العزيز أكثر ما راعه أنه لم يستشف من صاحبه رغبة - وهو يعلم أنه كتوم - أو بالأحرى حماسا للترشح للرئاسة بينما يستغرب محمد ولد الشيخ محمد أحمد أشد ما يستغرب أن صاحبه - وهو يعرفه بحب الحكم- لم يدعه بكل عفوية ليعرض عليه الترشح والقيام بلعب ذلك الدور كما دأب على لعب الأدوار المنوطة به من قِبله أو كما تقتضيه أبجديات اللعبة من واجب تمرير الكرة وعدم الاحتفاظ بها داخل الفريق..
وهكذا تبدو نفسية الرجلين: لا يدور بخلد أحدهما طرف ثالث! ولا غرابة في ذلك، فالرجل الأول أمره واضح وبما أنه في حال وداع ومنصرف طواعية أو بالقانون - إلى إشعار آخر- فلن تكلفنا صراعاته حول الحكم مع المدنيين وغيرهم بنت شفة.. أما الرجل الثاني، فمع كامل الاحترام لمكانته الاجتماعية والتقدير لمرتبته السامية، لاسيما في هذا الظرف الحرج حيث يعرض نفسه على الناخب، فإنه، علاوة على شراكته الوفية في كل تلك السيجالات والمعارك، أرسى بكياسة الحاذق عملا جبارا ليكون الجيش الموريتاني جيش حكم تماما كما في الجزائر.. ففي عهده تطورت الثانوية العسكرية وأنشأت مدرسة المهندسين المتعددة التقنيات التابعة للجيش وبرامجها ونظامها يحاكي مدرسة الحراش الجزائرية. وبذل جهدا دبلوماسيا قويا في أن تكون انواكشوط مقرا للأكاديمية العسكرية لدول الساحل.
فمن منظور وطني بحت، مادامت هذه المنشآت مفتوحة أمام جميع الموريتانيين فإن هذا العمل المهم يحسب للرجل لا عليه.. ولكن يرى البعض أن بعد نظره في تركيزه على التكوين، الغرض منه إرساء نخبوية داخل الجيش وتحضير أبناء الضباط والتمكين لهم للاضطلاع بالحكم جيلا بعد جيل..
ما أوردناه هنا هو للتدليل على أن نفسيتي المحمدين قد تكون بعيدة كل البعد عن تقبل هزيمة إنتخابية إثر إجراء اقتراع نزيه.. وعليه، فلا بد لحليمة أن تعود إلى عادتها القديمة..
فعندما تنتهي كرنفالات الحملة وتجرى المياه تحت الجسر، ستضغط الدولة العميقة على زر تشغيل ماكينات التزوير لحشو صناديق الاقتراع كعادتها في فرض إرادتها على المجتمع.
ولكن هذه المرة، هل يكتفي الموريتانيون – على عادتهم هم أيضا – بما يرمي إليهم من الفتات بدل نيل حقوقهم كاملة غير منقوصة ومنها التعبير الحر عبر صناديق الاقتراع لاختيار من يحكمهم؟ يقال أن دورة التغيير الاجتماعي عمر جيل، فهل دقت ساعة التغيير؟ ترى، كم ستكون نسبة التزوير في الانتخابات الرئاسية القادمة؟ وهل هناك مستوى من التزوير يكون بمثابة القشة التي تقصم ظهر البعير أو القطرة التي يفيض منها الكأس؟ وبصريح العبارة، هل يكون التزوير عامل شرارة لآخر الشعوب المغاربية ثورة؟
فمن تهمه مآلات الأمور، من المفيد له أن يتأمل أهم خصائص الثورات كظواهر اجتماعية:
لا يتنبأ بالثورة من تقوم عليه وغالبا ما تقوم على الأنظمة المستبدة. وليس ذلك من قلة في مخبريها أو عدم فعالية في جمع المعلومات وتحليلها وإنما لنظرة دونية للحاكم لمجتمعه والإمعان في الازدراء لردود أفعاله ثم التعويل المفرط على آلة التخويف والقمع لمظاهر الممانعة الجماعية.. كيف أدت آخر صرخة لخضار متجول في نقطة نائية عن العاصمة تونس إلى اقتلاع النظام العاتي لبن علي! ألم تنه "العهدة الخامسة" لرجل طرحه المرض أرضا نظام بوتفليقه بأكمله! تحضرني هنا استقالة الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي الجزائري وهو يعتذر لشعبه عن دعمه لما وصفه "بالحماقة" ويأسف بكل عفوية أنه لم ير "العهدة الخامسة" فكرة سيئة بادئ الأمر!
يسبق الثورة تململ باطني داخل أغلبية المجتمع إثر الشعور بالغبن والظلم والإقصاء من قبل الأنظمة القائمة. يتراكم ذلك الشعور باضطراد وتتفشى رقعة التذمر في تزايد حتى يصل الضغط الاجتماعي إلى منسوب ما يصعب معه التحكم في سلوك المجتمع ولو كان في طبيعته مسالما طيبا، فطيبة النفس لها آخر. فمثلا، يجمع الناس على أن الشعب السوداني شعب طيب مسالم صبور ولكن بلغ به من سوء التسيير وضيق العيش، ما أخرجه عن بكرة أبيه في الشوارع ينشد التغيير ويطالب بالإصلاح توا لا بعد حين!
قد تقوم الثورات فجأة إثر حادث يهز أركان المجتمع كجريمة مدوية أو إهانة لمقدس أو لإجراء إداري جاحف غير قابل للتطبيق أو جشع زائد للحكام يؤدي إلى محاصرة المجتمع في أرزاقه أو مغامرة منهم غير محسوبة كتزوير مفرط للانتخابات. وهكذا في لحظة واحدة، تزل أركان الحكم كزلل القدم بعد ثبوتها وينتقل الحاكم، في ومضة عين، من حال الممسك بكل شيء إلى حال فاقد كل شيء! وإني لشاهد بأم عيني في يومين على عنف لم أر مثله قط في حياتي إثر إجراءات النقل الجائرة بحق بسطاء الناقلين (2017). ولولا التراجع عن ذلك الجور في اليوم الثالث، لحدثت ببلدنا قصة تروى!
ما تطرقنا إليه من مزالق أعلاه، إنما يأتي على نحو من مذهب الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان في استبيان مكامن الشر مخافة الوقوع فيه.. وإن كل غيور على هذا البلد ليرجو أن يبقى السباق الرئاسي حرا عادلا نزيها شفافا وأن يكون يوم الاقتراع يوم مرحمة لا ملحمة، لاشيت فيه ولا شائبة. فمجتمعنا، لهشاشة في تركيبته، لأحوج اليوم من أي وقت مضى إلى السلم والرفق منه إلى الثورة والعنف وإن كان نبض الشارع الذي يصلنا يوحي بتوق عميق إلى التغيير واستشراف جيل جديد من الحكام.
فالجيل الأول جيل تحرير الأرض وإرساء دعائم الدولة الوطنية. أما الجيل الثاني فهو جيل الانقلابات. فهل يكون الجيل الثالث جيل البناء والإنعتاق؟